نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
السنبلة السعودية في عاصمة الأمويين, اليوم السبت 26 يوليو 2025 11:24 مساءً
المال لا يصنع كل شيء، ولا السياسة كذلك، ولا المجتمعات يمكن لها أن تتآخى وتتقارب دون ثقة بعضها ببعض. وأعلى طموحات الشعوب الإيمان بها. والخرائط تخاف من اليد التي قد تطالها. والنزاعات والحروب؛ تفضل من ينهيها، لا من يتحمل وزر الطلقة الأولى.
في العالم العربي توجد دولة اسمها سوريا، هي كيان كبير يملك تاريخا مثخنا بالنزاعات، من العثمانيين حتى الانتداب الفرنسي، ومن ثم الاحتلال الإنجليزي، وصولا إلى حقبة الحكم السوري من قبل أبناء الدولة.
أعني بأبناء الدولة؛ شكري القوتلي «وهو أول رئيس بعد الاستقلال». وحسني الزعيم، وهاشم الأتاسي، وأديب الشيشكلي وفوزي سلو، وجمال عبد الناصر الذي نصب فخا للسوريين، وتمكن من حكم سوريا ومصر، في إطار ما يسمى بالجمهورية العربية المتحدة. وناظم القدسي. وربما سقطت بعض الأسماء.
المهم، جاءت فترة الأسد الأب، وخلطت الأوراق. انحرفت سوريا عن مسارها السياسي والاجتماعي. صحيح أن حافظ الأسد كان وفيا للكلمة والوعود. لكنه ذو هوى وطابع مزاجي صعب. انقلب على صلاح جديد رفيق دربه العسكري وزعيم الكتلة اليسارية في حزب البعث السوري، بحركة أسماها حركة تصحيحية، ووضعه مع بعض الرفاق في غياهب السجون للاستئثار بالسلطة.
ثم تولى هو وأخوه رفعت الأسد دفة الدولة، ومارسا جميع أشكال القمع بحق الشعب، وسلبا من المجتمع السوري أبسط مقومات حريته واستبدلاها بالإرهاب الذي مارسته بحقه أجهزة الأمن والمخابرات. أعتقد أن مجازر حماة خير دليل على بطش الأسدين حافظ ورفعت.
مضت الأيام، إلى أن جاء ابنه بشار الأسد للسلطة رئيسا للبلاد بعد وفاة والده، الذي كانت تمطر السماء بفضله. قاد الأرعن بوصلة سوريا ذات التاريخ العميق، تارة بالشيزوفرينيا التي يعاني منها وأخرى بالعناد، للمجهول.
أخرج سوريا عن إطارها العربي، وهي التي كانت تمثل ثقلا سياسيا كبيرا إلى جانب السعودية ومصر. راهن على العنتريات وافتعال الخصومات، وكان مصيره معروفا مسبقا، إنما الأمر مسألة وقت لا أكثر. وبالفعل حدث ما حدث، انتهى هاربا صاغرا، وأصاب قواعده الشعبية التي ساندته طوال حكمه، بعيدا عن فترة الحرب التي اندلعت عام 2011 بالخذلان.
تلك المقدمة عبارة عن موجز تاريخي يمكن من خلاله النظر إلى سوريا الجديدة. فالتاريخ لا يقبل التقسيم. يشبه الخرائط في التركيبة والمضمون.
لا يمكن إنكار أن سوريا الجديدة، كانت إلى حد ما، تعاني من بعض العوامل التي يمكن اعتبارها محبطة. مثل؟ الريبة والتوجس من الإدارة القابعة في قصر الشعب، التي لا تخفيها بعض العواصم الغربية. والريبة التي أقصد أفضل بآلاف المرات من حالة الرفض المعلنة عالميا، قبل تدخل السعودية، التي تمكنت من حلحلة بعض الأفكار والرؤى في دوائر صناعة القرار العالمي، وعلى رأسها واشنطن. وهي الأهم بنظري من غيرها.
وعلى ذكر السعودية وهي محور حديثي هذا اليوم، فقد حط وفد اقتصادي رفيع المستوى في العاصمة دمشق، بناء على أمر ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لبناء شراكات اقتصادية مع سوريا.
تلك الخطوة السعودية قد يراها البعض غير محسوبة، أو متهورة. لماذا؟ لأن سوريا تعاني من تناحر في السويداء بين أبناء المجتمع. ومن شتات في الشمال السوري. ومن تدخلات إسرائيل السافرة التي تجاوزت عبرها كل الأعراف والقوانين الدولية. وهذا غير صحيح.
كيف؟ تسير الرياض وفق رؤية عميقة، تنحي جانبا جميع أشكال العواطف. وتلك التصورات السعودية يمكن إيجازها بعدة نقاط، ما هي؟ أولا: هناك يقين في المملكة أن المنطقة لا يمكن لها أن تعيش استقرارا يشجع على البناء في ظل وجود سوريا مضطربة، فهي بلا شك عمق استراتيجي مهم للمنطقة بأسرها وليس السعودية فقط. ثانيا: يثق صانع القرار السعودي بأن مواجهة التطرف والشبكات الأصولية الدينية، وعصابات تهريب المخدرات، المتواجدة على أرض سوريا - وهذا يصعب الصد عنه أو إنكاره - لن تتم بالمواجهة والعسكرة على حدة، بل يمكن القضاء عليها بتحسين الوضع الإنساني والاقتصادي، والدعم السياسي للدولة السورية ككيان، يعيش تحته جميع الشرائح والمكونات السورية.
ثالثا: تضع السعودية في حسبانها تشجيع الإدارة السورية على بناء الثقة العالمية وليس الإقليمية. وذا سيعود على الإنسان السوري، الذي يعد عماد الدولة الأساسي.
إن المشهد الذي دار بين ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حين وافق على رفع العقوبات عن سوريا من السعودية، يؤكد بأن المملكة لم تنتهِ عند إقناع واشنطن بمنح الفرصة للإدارة السورية الجديدة، إنما حملت ملفا كبيرا، يرمي لإعادة الحياة لشعب عاش على مقربة من الموت، منذ أكثر من خمسين عاما مضت.
والسعوديون حين ضخوا مليارات الريالات في سوريا، فذلك يندرج في إطار المشروع الكبير الذي يحملونه لدفع سوريا لبر الأمان. إنها توجهات بُنيت على إطار أخلاقي؛ عنوانه العريض عدم التخلي عن الأشقاء وقت المحن.
لم يهدفوا للبحث عن نفوذ أو موطئ قدم، ولن ينتظروا عوائد استثمارية. هم لا يشبهون غيرهم، وغيرهم لا يشبهونهم.
ذهبوا بكل ود لشعب جريح، غرسوا سنبلتهم في عاصمة الأمويين.. وعادوا.
0 تعليق