نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الفقر يضرب ثالث أكبر اقتصاد أوروبي, اليوم الثلاثاء 15 يوليو 2025 08:25 صباحاً
بالرغم من أن فرنسا تمثل ثالث أكبر اقتصاد في أوروبا بعد ألمانيا وإنجلترا، فإنها تشهد اليوم صدمة اجتماعية، يتردد صداها في أرجاء البلاد، بعد أن كشف المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية قبل أيام عن ارتفاع معدل الفقر من 14.4% إلى 15.4 خلال عام واحد، ليدخل 650 ألف شخص إضافي إلى دائرة الفقر في عام 2023م، وهو ما يمثل نقطة تحول عميقة في بنية المجتمع الفرنسي، ويعيد طرح سؤال مهم: هل لا تزال السياسات الفرنسية قادرة على حماية الطبقات الدنيا في مواجهة الأزمات؟
هذا الارتفاع الحاد لمعدل الفقر يُعد الأعلى منذ ما يقارب ثلاثين عاما، وفق تصريح ميشال دويه، رئيس قسم موارد الأسر في المعهد، حيث إن أقرب مستويات مماثلة كانت في مطلع السبعينيات الميلادية، ما يعني أن المجتمع الفرنسي يعود اليوم إلى مشهد اجتماعي كان يُعتقد أنه ولّى إلى غير رجعة.
ومما لا شك فيه أن هذه القفزة المفاجئة في معدل الفقر لا تعكس فقط تدهورا تدريجيا، بل انقلاب حاد بعد استقرار نسبي في العقدين الماضيين، حيث كانت السياسات الاجتماعية والبرامج الداعمة تمنع التدهور بهذا الشكل العنيف، إلا أن أداء الحكومات المتعاقبة خاصة خلال العامين الماضيين، في عهد الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، الذي لم يعد قادرا على ضبط العلاقة مع سيدة فرنسا الأولى في كثير من المواقف الدبلوماسية، أوصل معدلات الفقر إلى هذه الدرجة المتدنية.
العجز الحكومي في تنفيذ سياسات اقتصادية فعالة تحمي الشرائح الضعيفة في فرنسا أصبح واضحا، تحت إدارة ماكرون، التي أسرفت في الوعود المتكررة بإصلاح سوق العمل وتحفيز النمو، في ظل تطبيقها لسياسات عارضها الشعب ومختلف الأحزاب، مثل إلغاء المساعدات الاستثنائية التي قد أُقرت عام 2022، التي من بينها منحة التضخم ومكافأة العودة المدرسية، واللتان ساعدتا مؤقتا في تعزيز القدرة الشرائية، حيث إنه مع انسحاب الدولة، عاد الفقر ليتفاقم، ما يعكس انفصاما بين الخطاب الحكومي والواقع المعيشي.
وهذه السياسات الاقتصادية المتأرجحة، ليست مستغربة في ظل أزمات سياسية متتالية عاشتها فرنسا، بعد قرار ماكرون بحل الجمعية الوطنية في يونيو 2024م، مما أدخل فرنسا في دوامة من عدم الاستقرار السياسي، وتزامن ذلك مع ما شهدته فرنسا من تشكيل أربع حكومات في عام ونصف.
وفي ظل هذه الأزمات صدرت قرارات اقتصادية مثيرة للجدل، مثل محاولات تمرير ميزانية 2025م التي تضمنت تخفيضات في الإنفاق وزيادات ضريبية، التي بسببها تم حجب الثقة عن حكومة ميشيل بارنييه، التي لم تكمل حتى 90 يوما من العمل، بعد أن أثارت محاولاتها تلك استياء شعبيا واسعا، خاصة بين الفئات الأكثر هشاشة اقتصاديا.
وبالتزامن مع ما يحصل داخليا، فإن السياق الاقتصادي العالمي ساهم جزئيا في هذه الأزمة، فقد واجهت أوروبا موجات تضخم متلاحقة نتيجة تداعيات الحرب في أوكرانيا، وارتفاع أسعار الطاقة، واضطرابات سلاسل الإمداد العالمية، إلا أن هذه الأسباب الخارجية مثل التضخم العالمي أو وضع الاتحاد الأوروبي، لا تشكل سوى 30 إلى 40% فقط من مسببات أزمة الفقر الحالية، فيما تتحمل السياسات الداخلية 60 إلى 70% من المسؤولية.
ويتجلى ذلك في ضعف الاستجابة الحكومية، وانسحاب الدولة من دعم الأسر الفقيرة، وتآكل سياسات إعادة التوزيع التي كانت تمثل ركيزة النموذج الفرنسي، الذي زاد من اتساع الفقر، ويساهم فعليا فيما يسمى بالتفاوت الطبقي، إذ سجل عام 2023م أعلى تفاوت بين الفقراء والأغنياء منذ ثلاثة عقود، ففي حين يتراجع مستوى معيشة الفئات الدنيا، فإن الثروات المالية تزداد لدى الفئات العليا، التي استفادت من أداء الأسواق المالية وسوق العمل.
إن هذا الواقع الذي تعيشه فرنسا لا ينبئ بأزمة اجتماعية فقط، بل يشير إلى شرخ هيكلي في توازن المجتمع الفرنسي، ويهدد النموذج الجمهوري الذي يقوم على المساواة والعدالة الاجتماعية، كما أنه يُعد نتيجة لتراكم طويل من السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي أدارت ظهرها للطبقات المتوسطة والدنيا، حتى أصبحت النتيجة واضحة وهي تآكل الحماية الاجتماعية، وتفكك الطبقة الوسطى، وزيادة هشاشة سوق العمل.
إن حكومة الرئيس ماكرون ليست مطالبة اليوم بالتبرير أو تعليق الأزمة على شماعة الخارج، بل إعادة التفكير في دور الدولة، وموقع العدالة الاجتماعية في صلب السياسات الاقتصادية، ففرنسا لا تحتاج إلى مسكنات استثنائية، بل إلى تحول هيكلي يعيد الاعتبار للتضامن الوطني قبل أن تخرج الأزمة عن السيطرة، فالمجتمعات التي تتوسع فيها الفجوة بين الأغنياء والفقراء تكون أكثر عرضة للتوترات الاجتماعية، والتطرف السياسي، والانقسامات التي تقوض الديمقراطية نفسها.
0 تعليق