معرض الكتاب بجدة: أسئلة التراجع الصامت؟

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
معرض الكتاب بجدة: أسئلة التراجع الصامت؟, اليوم الاثنين 22 ديسمبر 2025 07:24 صباحاً


تقرأ معارض الكتب بوصفها مؤشرات ثقافية دقيقة، تعكس مستوى التفاعل المجتمعي مع المعرفة، وتقيس في الوقت نفسه حيوية صناعة النشر وقدرتها على الوصول إلى جمهورها، ومن هذا المنطلق؛ لا يقتصر تقييم أي دورة من دورات معارض الكتب على انتظام التنظيم أو تنوع الفعاليات المصاحبة، وإنما يمتد إلى طبيعة الحضور وكثافته وأثره الفعلي داخل الفضاء الثقافي.

ففي معرض الكتاب بجدة هذا العام، كان الإطار التنظيمي مستقرا، والجهد التنفيذي واضحا، غير أن مستوى الإقبال العام لم يعكس الحجم المتوقع للحدث، سواء من حيث كثافة الزوار أو من حيث حيوية التفاعل داخل القاعات، فلم يظهر الغياب بوصفه ظاهرة، لكن الحضور بدا أقل تأثيرا مما يفترضه موقع المعرض ودوره، وهو ما يفتح باب التساؤل حول دلالات هذا المشهد بعيدا عن الأحكام السريعة.

إن هذا النمط من الحضور يمكن وصفه بالتراجع الصامت؛ وهو تراجع لا يعني فشل الحدث، ولا يدل على انصراف الجمهور، لكنه يشير إلى انخفاض تدريجي في مستويات التفاعل المؤثر، ويظهر ذلك في هدوء الحركة داخل الأجنحة، وقصر زمن التوقف، وضعف التحول من الزيارة إلى الاقتناء، وخطورة هذا النمط تكمن في أنه يحدث ضمن هامش القبول العام، فلا يستدعي استجابة فورية، لكنه يترك أثره التراكمي مع مرور الوقت.

وتأتي هذه الظاهرة في سياق تحولات أوسع تطال علاقة الجمهور بالفعل الثقافي، فقد تغيرت أنماط القراءة، وأصبحت أكثر فردية وانتقائية، كما أسهم تنوع القنوات الرقمية في إعادة تشكيل طرق الوصول إلى المعرفة؛ ونتيجة لذلك، تغير دافع الحضور إلى المعارض من الرغبة في الاكتشاف العام إلى البحث عن تجربة نوعية محددة، حيث لم يعد المعرض عند شريحة من الجمهور محطة أساسية، بل خيار ضمن منظومة ثقافية أوسع، وهو ما انعكس على طبيعة الزيارة وسلوك الزائر داخل الفضاء العام.

وفي هذا السياق، تبرز أهمية التجربة الثقافية التي يقدمها المعرض، فإتاحة العناوين لم تعد وحدها كافية لتحفيز الحضور الممتد، كما أن ثبات شكل التجربة يقلل من قدرتها على جذب جمهور يتغير بسرعة، وعندما لا تتحول الزيارة إلى مشاركة معرفية أعمق، يصبح الحضور عابرا، وتفقد الفعالية جزءا من قدرتها على ترسيخ نفسها في الوعي الثقافي العام.

وتتضح آثار هذا التحول بشكل أكبر عند النظر إلى صناعة النشر، فدور النشر تتعامل مع معارض الكتب بوصفها منصات تقييم عملي تبنى عليها قرارات المشاركة المستقبلية، وهذه القرارات ترتبط بمؤشرات واضحة تتعلق بنوعية الجمهور، وحجم التفاعل، ومعدلات الشراء، وعندما لا تتحقق هذه المؤشرات بالمستوى المتوقع، تبدأ عملية إعادة ضبط هادئة، تظهر في تقليص حجم المشاركة، أو الاكتفاء بعناوين محدودة، أو النظر إلى المعرض باعتباره مساحة اختبار منخفضة الجدوى.

وهذا النوع من التراجع لا يحدث فجأة، ولا يعلن عن نفسه بوضوح، لكنه يؤثر تدريجيا في تنوع المعرض وقدرته على التجدد، ويضعف جاذبيته بوصفه سوقا ثقافية فاعلة، ومع تكرار هذا النمط، تتأثر العلاقة بين المعرض والناشر، وهي علاقة تقوم في جوهرها على الثقة في الجدوى والاستمرارية.

إن قراءة هذه المؤشرات مجتمعة تظهر أن التراجع الصامت ظاهرة مركبة، لا تختزل في عامل واحد، ولا تعالج بإجراءات شكلية، والتعامل معها يتطلب فهما عميقا لتحولات الجمهور، وتطويرا واعيا للتجربة الثقافية المقدمة، واستجابة عملية لمتطلبات صناعة النشر، فالانتباه المبكر لهذه الإشارات يظل الخيار الأكثر فاعلية لضمان أن يبقى معرض الكتاب في جدة منصة حيوية، قادرة على الحفاظ على دورها الثقافي، وعلى ثقة جمهورها وشركائها في مشهد سريع التحول.

أخبار ذات صلة

0 تعليق